فصل: الأصل الخامس: حسن الاتباع والقدرة على الاختراع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الأصل الخامس: حسن الاتباع والقدرة على الاختراع:

واعلم أن لكاتب الإنشاء مسلكين: المسلك الأول طريقة الاتباع وهي نظر الكاتب في كلام من تقدمه من الكتاب، وسلوك منهجهم، واقتفاء سبيلهم، وسماها ابن الأثير التقليد، وهي على صنفين:
الصنف الأول الاتباع في الألفاظ وهو اعتماد الكاتب على ما رتبه غيره من الكتاب، وأنشأه سواه من أهل صناعة النثر، بأن يعمد إلى أنشأه أفضل الكتاب ورتبه علماء الصناعة: من نثر أو نظم، فيأخذه برمته، ويأتي عليه بصيغته؛ وغايته أن يكون ناسخاً ناقلاً لكلام غيره، حاكياً له. ولمثل ذلك توضع الدساتر، وتدون الدواوين؛ على أنه ربما غي وبدل، وحرف وصحف، وأزال اللفظ عن وضعه؛ وأحال المعنى عن حكمه؛ وبعضهم ربما حملته الأنفة والخوف من أن يقال أخذ كلام فلان برمته، فعدل إلى كلام غيره، فالتقط من كل مكان سجعتين أو سجعات، ورتب بعضها على بعض حتى تقوم بمقصوده، وينتهي إلى مراده.
فإن كان لطيف الذوق، حسن الاختيار، رائق الترتيب، فاختار م خلال السجع لطيفه، وأحسن رصفه وتأليفه، جاء بهجاً رائقاً، لأنه أتى من كل كلام بأحسنه، إلا أن فيه إخراج الكلام عن وضعه الذي قصده الناثر، وتفريق ما دون من كلام الأفاضل وتبديد شمله، وخروج الكلام عن أن يعرف قائله، ويعلم منشئه، فيقع من القلوب بمكان صاحبه ويهتدي بهديه، وينسج على منواله.
وإن لم يكن لطيف الذوق، ولا حسن الاختيار، جاء ما لفقه من كلام غيره رثاً ركيكاً، نابياً عن الذوق، بعيداً عن الصنعة، يعاد ن النسخ إلى المسخ، وأخرج الكلام عن موضوعه، وأفسده في وضعه وتركيبه، فإن صحبه التصحيف والتحريف فتلك الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى؛ ثم لا يكتفي بذلك حتى يتبجح به ويعتقد أن ذلك عين الإنشاء وحقيقته، محتجاً في ذلك بقول الحريري: إن صناعة الحساب موضوعة على التحقيق، وصناعة الإنشاء مبنية على التلفيق. ظاناً أن التلفيق هو ضم سجعات منتظمة، وفقرات مؤلفة بعضها إلى بعض، ولم يعلم أن المراد بالتلفيق ضم لفظة إلى أختها، وإضافة كلمة إلى مشاكلتها وشتان ما بين التفليقين، وبعداً لما بين الطريقين:
وللزنبور والبازي جميعاً ** لدى الطيران أجنحة وخفق

ولكن بين ما يصطاد باز ** وما يصطاده الزنبور فرق

وقد عأبوا أخذ المعنى إذا كان ظاهراً مكشوفاً، فما ظنك بمن يأخذ الكلام برمته واللفظ بصورته، فيصير ناسخاً لكلام غيره، وناقلاً له! فأي فضيلة في ذلك؟ وقد قيل: من أخذ معنى بلفظه كان سارقاً، ومن أخذ بعض لفظه كان سالخاً، ومن أخذه فكساه لفظاً من عنده كان أولى به ممن تقدمه، وأين من هو أولى بالشيء ممن سبقه إليه ممن يعد سارقاً وسالخاً؟ ويقال إن أبا عذرة الكلام من سبك لفظه على معناه، ومن أخذ معنى بلفظه فليس له فيه نصيب. هذا فيمن أخذ سجعة أو سجعتين في خطبة أو رسالة، أو بيتاً أو بيتين في قصيدة وما قارب ذلك؛ أما من أخذ القصيدة بكمالها، أو الخطبة أو الرسالة برمتها، أو لفقها من خطب أو رسائل فذاك إنما يعد ناسخاً إن أحسن النقل، أو ماسخاً إن أفسده.
واعلم أن الناثر الماهر، والشاعر المفلق قد يأتي بكلام سبقه إليه غيره، فيأتي بالبيت من الشعر، أو القرينة من النثر، أو أكثر من ذلك بلفظ الأول من غير زيادة ولا نقصان، أو بتغيير لفظ يسير، وهذا هو الذي يسميه أهل هذه الصناعة وقوع الحافر على الحافر. وقد سئل أبو عمرو بن العلاء عن الشاعرين يتفقان على لفظ واحد ومعنى فقال: عقول رجال توافت على ألسنتها.
والواقع من ذلك في كلامهم على قسمين:
القسم الأول ما وقع الاتفاق فيه في المعنى واللفظ جميعاً.
كقول الفرزدق:
وغر قد وسقت مشمرات ** طوالع لا تطيق لها جوابا

بكل ثنية وبكل ثغر ** غرائبهن تنتسب انتسابا

بلغن الشمس حين تكون شرقاً ** ومسقط رأسها من حيث غابا

ووافقه جرير فقال مثل ذلك من غير زيادة ولا نقص.
ويروى أن عمر بن أبي ربيعة أنشد ابن عباس رضي الله عنه:
نشط غداً دار جيراننا

فقال ابن عباس رضي الله عنه:
وللدار بعد غد أبعد

فقال عمر: والله ما قلت إلا كذلك.
قال أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين: وأنشدت الصاحب إسماعيل بن عباد رحمه الله:
كانت سراة الناس تحت أظله

فسبقني وقال:
فغدت سراة الناس فوق سراته

وكذلك كنت قلت: قال الوزير ضياء الدين بن الأثير رحمه الله في كتابه المثل السائر: ويحكى أن امرأة من عقيل يقال لها ليلى كان يتحدث إليها الشباب، فدخل الفرزدق إليها وجعل يحادثها، وأقبل فتى من قومها كانت تألفه فدخل إليها فأقبلت عليه وتركت الفرزدق، فغاظه ذلك فقال للفتى: أتصارعني؟ فقال: ذاك إليك، فقام إليه فلم يلبث أن أخذ الفرزدق فصرعه وجلس على صدره فضرط، فوثب الفتى عنه وقال: يا أبا فراس هذا مقام العائذ بك، والله ما أردت ما جرى، قال: ويحك! والله ما بي أنك صرعتني ولكن كأني بابن الأتان، يعني جريراً وقد بلغه خبري فقال يهجوني:
جلست إلى ليلى لتحظى بقربها ** فخانك دبر لا يزال يخون

فلو كنت ذا حزم شددت وكاءه ** كما شد جربان الدلاص قيون

فما مضى إلا أيام حتى بلغ جريراً الخبر، فقال فيه هذين البيتين. قال: وهذا من أغرب ما يكون في هذا الموضع وأعجبه؛ قال في الصناعتين: وإذا كان القوم في قبيلة واحدة، في أرض واحدة، فإن خواطرهم تقع متقاربة، كما أن أخلاقهم وشمائلهم تكون متضارعة. قال في المثل السائر: ويقال إن الفرزدق وجريراً كانا ينطقان في بعض الأحوال عن ضمير واحد. قال: وهذا عندي مستبعد، فإن ظاهر الأمر يدل على خلافه، والباطن لا يعلمه إلا الله تعالى، وإلا فإذا رأينا شاعراً متقدم الزمان قد قال قولاً ثم سمعناه من شاعر أتى من بعده، علمنا بشهادة الحال أنه أخذه منه؛ وهب أن الخواطر تتفق في استخراج المعاني الظاهرة المتداولة، فكيف تتفق الألسنة أيضاً في صوغ الألفاظ؟ وكلام العسكري في الصناعتين يوافقه بالعتب على المتأخر، وإن ادعى أنه لم يسمع كلام الأول في مثل ذلك.
القسم الثاني ما وقع الاتفاق فيه في المعنى وبعض اللفظ وهو على ضربين:
الضرب الأول ما اتفق فيه المعنى وأكثر اللفظ كقول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي على مطيهم ** يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وقول طرفة:
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم ** يقولون لا تهلك أسى وتجلد

فالتخالف بينهما في كلمة القافية فقط.
وقول البعيث:
أترجو كليب أن يجيء حديثها ** بخير وقد أعيا كليباً قديمها؟

وقول الفرزدق:
أترجو ربيع أن تجيء صغارها ** بخير وقد أعيا ربيعاً كبارها؟

فالتخالف بينهما في موضعين من البيت، كلمة القافية واسم القبيلة.
وقول بعض المتقدمين يمدح معبداً صاحب الغناء:
أجاد طويس والسريجي بعده ** وما قصبات السبق إلا لمعبد

وقول الفرزدق بعده:
محاسن أصناف المغنين جملة ** وما قصبات السبق إلا لمعبد

فاتفقا في النصف الثاني واختلفا في النصف الأول، إلى غير ذلك من الأشعار التي وقعت خواطر الشعراء عليها، وتوافقت عقولهم عندها.
الضرب الثاني ما اتفق فيه المعنى مع يسير اللفظ:
فمن ذلك قول البحتري في وصف غلام:
فوق ضعف الصغير إن وكل الأمـ ** ـر إليه ودون كيد الكبار

أخذه من قول أبي نواس:
لم يجف من كبر عما يراد به ** من الأمور ولا أزرى به الصغر

وقول أبي تمام:
لم أمدحك تفخيماً بشعري ** ولكني مدحت بك المديحا

أخذه من قول حسان بن ثابت يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
ما إن مدحت محمداً بمقالتي ** لكن مدحت مقالتي بمحمد

وقول أبي الطيب:
أين أزمعت أيها ذا الهمام ** نحن نبت الربا وأنت الغمام

أخذه من قول بشار:
كان الناس حين تغيب عنهم ** نبات الأرض أخطأه القطار

الصنف الثاني التقليد في المعاني وهذا مما لا يستغني عنه ناظم ولا ناثر:
قال أبو هلال العسكري رحمه الله في كتابه الصناعتين: ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تنأول المعاني ممن تقدمهم والصب على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظاً من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويوردوها في غير جليتها الأولى، ويزيدوا عليها في حسن تأليفها وجودة تركيبها، وكمال حليتها ومعرضها، فإذا فعلوا ذلك فهم أولى بها ممن سبق إليها. قال: ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول، وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين؛ وقد قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: لولا أن الكلام يعاد لنفذ. ومن كلام بعضهم: كل شيء إذا ثنيته قصر إلا الكلام، فإنك إذ ثنيته طال، والمعاني مشتركة بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجيد للسوقي والنبطي والزنجي. وإنما يتفاضل الناس في الألفاظ ورصفها، وتأليفها ونظمها، وقد أطبق المتقدمون والمتأخرون على تداول المعاني بينهم، فليس على أحد فيه عيب إلا إذا أخذه بكل لفظه، أو أفسده في الأخذ وقصر فيه عمن تقدمه. قال في الصناعتين: وما يعرف للمتقدم معنى شريف إلا نازعه فيه المتأخر وطلب الشركة فيه معه، إلا بيت عنترة:
وخلا الذباب بها فليس ببارح ** غرداً كفعل الشارب المترنم

هزجاً يحك ذراعه بذراته ** قدح المكب على الزناد الأجذم

فإنه ما نوزع فيه على جودته. قال: وقد رامه بعض المحدثين فاتضح مع العلم بأن ابتكار المعنى والسبق إليه ليس فيه فضيلة ترجع إلى المعنى، وإنما ترجع الفضيلة فيه إلى ابتكره وسبق إليه؛ فالمعنى الجيد جيد وإن كان مسبوقاً إليه، والوسط وسط والرديء رديء، وإن لم يكن مسبوقاً إليهما. على أن بعض علماء الأدب قد ذهب إلى أنه ليس لأحد من المتأخرين معنى مبتدع، محتجاً لذلك بأن قول الشعر قديم مذ نطق باللغة العربية، وأنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مراراً. قال في المثل السائر: والصحيح أن باب الابتداع مفتوح إلى يوم القيامة، ومن الذي يحجر على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له؟ إلا أن من المعاني ما يتساوى فيه الشعراء ولا يطلق عليه اسم الابتداع لأول قبل آخر لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر الأول، كقولهم في الغزل:
عفت الديار وما عفت ** أثارهن من القلوب

وقولهم في المديح: إن عطاءه كالبحر أو كالسحاب، وإنه لا يمنع عطاء اليوم عطاء غد، وإنه يجود بماله من غير مسألة؛ وأشباه ذلك.
وقولهم في المراثي: إن هذا الرزء أول حادث، وإنه استوى فيه الأباعد والأقارب، وإن الذاهب لم يكن واحداً وإنما كان قبيلة، وإن بعد هذا الذاهب لا يعد للمنية ذنب، وما أشبه ذلك. وكذلك سائر المعاني الظاهرة التي تتوارد عليها الخواطر من غير كلفة، ويستوي في إيرادها كل بارع. قال: ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأول، وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوص كقول أبي تمام:
لا تنكروا ضربي له من دونه ** مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره ** مثلاً من المشكاة والنبراس

فإن هذا معنى ابتداعه مخصوص بأبي تمام، وذلك أنه لما أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السنيية التي مطلعها:
ما في وقوفك ساعة من باس

انتهى إلى قوله منها:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ** في حلم أحتف في ذكاء إياس

فقال الحكيم الكندي: وأي فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق أبو تمام ثم أنشد هذين البيتين معتذراً عن تشبيهه إياه بعمرو وحاتم وإياس. فالحال يشهد بابتداعه هذا المعنى، فمن أتى بعده بهذا المعنى أو بجزء منه كان سارقاً له، وكذلك كل ما جرى هذا المجرى. ولم يزل الشعراء والخطباء يقتبسون من معاني من قبلهم، ويبنون على بناء من تقدمهم.
فمما وقع للشعراء من ذلك قول أبي تمام:
خلقنا رجالاً للتجلد والأسى ** وتلك الغواني للبكا والمآتم

أخذه من قول عبد الله بن الزبير لما قتل مصعب بن الزبير: ونما التسليم والسلو لحزماء الرجال، وإن الجزع والهلع لربات الحجال؛ وقوله أيضاً:
تعجبت أن رأت جسمي نحيفاً ** كأن المجد يدرك بالصراع

أخذه من قول زياد ابن أبيه لأبي الأسود الدؤلي: لولا أنك ضعيف لاستعملتك، وقول أبي الأسود له في جواب ذلك: إن كنت تريدني للصراع فإني لا أصلح له، وإلا فغير شديد أن آمر وأنهى، وقوله من قصيدة البيت المتقدم:
أطال يدي على الأيام حتى جزيت ** صروفها صاعاً بصاع

أخذه من قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه:
فإن تقتلا أو يمكن الله منكما ** نكل لكما صاعاً بصاع المكايل

وقول أبي الطيب المتنبي:
وإذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مرادها الأجسام

أخذه من قول أرسطوطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة.
وقول الخاسر:
من راقب الناس مات غماً ** وفاز باللذة الجسور

أخذه من قول بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ** وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

فلما سع بشار بيت الخاسر قال: ذهب ابن الفاعلة ببيتي. ومثل هذا وأشباهه مما لا ينحصر كثرة، ولا يكاد أن يخلو عنه بيت إلا نادراً.
ومما وقع للكتاب من ذلك ما كتب به إبراهيم بن العباس من قوله في فضل من كتاب: إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه، وللمسيء من العقاب ما يقمعه، أزداد المحسن في الإحسان رغبة، وانقاد المسيء للحق رهبة. أخذه من قول علي كرم الله وجهه: يجب على الوالي أن يتعهد أموره، ويتفقد أعوانه، حتى لا يخفى عليه إحسان محسن، ولا إساءة مسيء، ثم لا يترك واحداً منها بغير جزاء؛ فإن ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.
وما كتب به بعض الكتاب في فصل وهو: لو سكت لساني عن شكرك، لنطق أثرك علي. وفي فصل آخر: ولو جحدتك إحسانك لأكذبتني آثارك، ونمت علي شواهدها؛ أخذه من قول نصيب:
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

وما كتب به أحمد بن يوسف من فصل وهو: أحق من أثبت لك العذر في حال شغلك، من لم يخل ساعة من برك في وقت فراغك. أخذه ن قول عي رضي الله عنه: لا تكونن كمن يعجز عن شكر ما أولي، ويلتمس الزيادة فيما بقي.
والاقتباس من الأحاديث والآثار كثير، وقد تقدم الكلام عليه قبل ذلك. قال في الصناعتين: ومن أخفى أسباب السرقة أن يأخذ معنى من نظم فيورده في نثر، أو من ثر فيورده في نظم، أو ينقل المعنى المستعمل في صفة خمر فيجعله في مديح، أو في مديح فينقله إلى وصف، إلا أنه لا يصل لهذا إلا المبرز الكامل المقدم.
وقال في المثل السائر: أشكل سرقات المعاني، وأدقها وأغربها، وأبعدها مذهباً، أن يؤخذ المعنى مجرداً من اللفظ. قال: وذلك مما يصعب جداً ولا يكاد يأتي إلا قليلاً، ولا يتفطن له ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض.
فمن ذلك قول أبي تمام في المدح:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة ** تقوم مقام النصر إذ فاته النصر

أخذه من قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً ** من المال يطرح نفسه كل مطرح

ليبلغ عذراً أو ينال رغيبة ** ومبلغ نفس عذرها مثل منجح

فعروة جعل اجتهاده في طلب الرزق عذراً يقوم مقام النجاح، وأبو تمام جعل الموت في الحرب الذي هو غاية اجتهاد المجتهد في لقاء العدو قائماً مقام الانتصار؛ قال في المثل السائر: وكلا المعنيين واحد، غير أن اللفظ مختلف. وأظهر من ذلك أخذاُ قول القائل:
وقد غزى ربيعة أن يوماً ** عليها مثل يومك لا يعود

أخذه من قول ابن المقفع في باب المراثي من الحماسة:
وقد جر نفعاً فقدنا لك أننا ** أمنا على كل الرزايا من الجزع

على أنه ربما وقع للمتأخر معنى سبقه إليه من تقدمه من غير أن يلم به المتأخر ولم يسمعه؛ ولا استبعاد في ذلك كما يستبعد اتفاق اللفظ والمعنى جميعاً. قال أبو هلال العسكري: وهذا أمر قد عرفته من نفسي فلا أمتري فيه، وذلك أني كنت عملت شيئاً في صفة النساء فقلت:
سفرن بدوراً وانتقبن أهلة

وظننت أني لم أسبق إلى جمع هذين التشبيهين حتى وجدت ذلك بعينه لبعض البغداديين فكثر تعجبي، وعزمت على ألا أحكم على المتأخر بالسرقة من المتقدم حكماً حتماً.
إذا تقرر ذلك فسرقة المعنى المجرد عن اللفظ لا تخرج عن اثني عشر ضرباً.
الضرب الأول: أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه ولا يكون هو إياه:
قال في المثل السائر: وهذا من أدق السرقات مذهباً وأحسنها صورة، ولا يأتي إلا قليلاً. فمن ذلك قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الشهادة لي بأني [كامل]

وهذا المعنى استخرجه المتنبي من قول بعض شعراء الحماسة، وإن لم يكن صريحاً فيه حيث يقول:
لقد زادني حباً لنفسي أنني ** بغيض إلى كل امرئ غير طائل

قال في المثل السائر: والمعرفة بأن هذا المعنى من ذلك المعنى عبر غامض غير متبين إلا لمن أعرق في ممارسة الشعر، وغاص على استخراج المعاني. قال: وبيان ذلك أن الأول يقول: إن بغض الذي هو غير طائل أياي قد زاد نفسي حباً إلي، أي قد جملها في عيني وحسنها عندي كون الذي هو غير طائل منقصي؛ والمتنبي يقول: إن ذم الناقص إياه بفضله كتحسين بغض الذي هو غير طائل نفس ذلك عنده.
وأظهر من ذلك أخذاً من هذا الضرب قول البحتري في قصيدة يفخر فيها بقومه:
شيخان قد ثقل السلاح عليهما ** وعداهما رأي السميع المبصر

ركبا القنا من بعد ما حملا القنا ** في عسكر متحامل في عسكر

أخذه من قول أبي تمام في وصف جمل:
رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ** رعاها وماء الروض ينهل ساكبه

فأبو تمام ذكر أن الجمل رعى الأرض، ثم سار فيها فرعته أي أهزلته، فكأنها فعلت به مثل ما فعل بها؛ والبحتري نقله إلى وصف الرجل بعلو السن والهرم، فقال: إنه كان يحمل الرمح في القتال، ثم صار يركب الرمح أي يتوكأ منه على عصا كما يفعل الشيخ الكبير.
وأوضح من ذلك وأكثر بياناً في الأخذ قول البحتري أيضاً:
أعاتك ما كان الشباب مقربي ** إليك فألحى الشيب إذ هو مبعدي

أخذه من قول أبي تمام:
لا أظلم النأي قد كانت خلائقها ** من قبل وشك النوى عندي نوى قذفا

الضرب الثاني: أن يؤخذ المعنى فيعكس:
قال في المثل السائر: وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حد السرقة.
فمن ذلك قول أبي نواس:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ** أشهى المطي إلى ما لم يركب

كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ** نظمت وحبة لؤلؤ لم تثقب؟

وقول ابن الوليد في عكسه:
إن المطية لا يلد ركوبها ** حتى تذلل بالزمام وتركبا

والدر ليس بنافع أربابه ** حتى يزين بالنظام ويثقبا

ومنه قول ابن جعفر:
ولما بدا لي أنها لا تريدني ** وأن هواها ليس عني بمنجلي؟

تمنيت أن تهوى سواي لعلها ** تذوق صبابات الهوى فترق لي

وقول غيره في عكسه:
ولقد سرني صدودك عني ** في طلابيك وامتناعك مني

حذراً أن أكون مفتاح غيري ** وإذا ما خلوت كنت التمني

أما ابن جعفر فإنه ألقى عن منكبيه رداء الغيرة؛ وأما الآخر فإنه جاء بالضد من ذلك وبالغ غاية المبالغة، ومنه قول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذة ** شغفاً بذكرك فليلمني اللوم

وقول أبي الطيب في عكسه:
أأحبه وأحب فيه ملامة ** إن الملامة فيه من أعدائه

ومنه قول أبي تمام:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ** بغاة العلا من أين تؤتى المكارم

وقول الوزير ضياء الدين بن الأثير في عكسه:
لولا الكرام وما سنوه من كرم ** لم يدر قائل شعر كيف يمتدح

الضرب الثالث: أن يؤخذ بعض المعنى دون بعض:
فمن ذلك قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ** ببذل وما كل العطاء يزين

وقول أبي تمام بعده:
تدعى عطاياه وفراً وهي إن شهرت ** كانت فخاراً لمن يعفوه مؤتنفاً

ما زلت منتظراً أعجوبة زمناً ** حتى رأيت سؤالاً يجتنى شرفاً

فأمية بن أبي الصلت أتى بمعنيين أحدهما أن عطاءك زين، والآخر أن عطاء غيرك ليس بزين، وأبو تمام أتى بالمعنى الأول فقط.
ومنه قول علي بن جبلة:
وأثل ما لم يحوه متقدم ** وإن نال منه آخر فهو تابع

وقول أبي الطيب بعده:
نرفع عن عون المكارم قدره ** فما يفعل الفعلات إلا عذاريا

فابن جبلة أتى بمعنيين، أحدهما أنه فعل ما لم يفعله أحد ممن تقدمه، وإن نال الآخر شيئاً فهو مقتد به وتابع له؛ وأبو الطيب أتى بالمعنى الأول فقط، وهو أنه فعل ما لم يفعله غيره مشيراً إلى ذلك بقوله:
فما يفعل الفعلات إلا عذاريا

أي يستبكرها ويزيل عذرتها.
ومنه قول الآخر:
أنتج الفضل أو تخل عن الدن ** يا فهاتان غاية الهمم

وقول البحتري بعده:
ادفع بأمثال أبي غالب ** عادية العدم أو استعفف

فالبحتري اقتصر على بعض المعنى ولم يستوفه.
الضرب الرابع: أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر:
قال في المثل السائر: وهذا النوع من السرقات قليل الوقوع بالنسبة إلى غيره.
فمن ذلك قول الأخنس بن شهاب:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فنضارب

وقول مسلم بن الوليد بعده:
إن قصر الرمح لم نمش الخطا عددا ** أو عرد السيف لم نهمم بتعرد

أخذ مسلم المعنى الذي أورده الأخنس وهو وصل السلاح إذا قصر بالخطايا إلى العدو وزاد عليه عدم تعريدهم أي قرارهم إذا عرد السيف. ومنه قول جرير في وصف أبيات من شعره:
غرائب آلاف إذا حان وردها ** أخذن طريقاً للقصائد معلما

وقول أبي تمام بعده:
غرائب لاقت في فنائك أنسها ** من المجد فهي الآن غير غرائب

فزاد أبو تمام على جرير قران ذلك بالممدوح ومدحه مع الأبيات. ومنه قول المعذل بن غيلان:
ولست بنظار إلى جانب الغنى ** إذا كانت العلياء في جانب الفقر

وقول أبي تمام بعده:
يصد عن الدنيا إذا عن سودد ** ولو برزت في زي عذاراء ناهد

فزاد عليه قوله:
ولو برزت في زي عذراء ناهد

ومما اتفق لي نظمه في هذا الباب أنه لما عمرت مدرسة الظاهر برقوق بين القصرين بالقاهرة المحروسة، وكان القائم بعمارتها الأمير جركس الخليلي أمير اخور الظاهري، وكان قد اعتمد بناءها بالصخور العظيمة التي لا تقلها الجمال حملاً، ولا تحمل إلا على العجل الخشب، فأولع الشعراء بالنظم في هذا المعنى؛ فنظم بعض الشعراء أبياتاً عرض فيها بذكر الخليلي وقيامه في عمارتها، ثم قال في آخرها:
وبعض خدامه طوعاً لخدمته ** يدعو الصخور فتأتيه على عجل

وألزمني بعض الإخوان بنظم شيء في المعنى، فوقع لي أبيات من جملتها:
وبالخليلي قد راجت عمارتها ** في سرعة بنيت من غير ما مهل

كم أظهرت عجباً أسواط حكمته ** وقد غدت مثلاً ناهيك من مثل

وكم صخور تخال الجن تنقلها ** فإنها بالوحا تأتي وبالعجل

فزدت عليه ذكر الوحا الذي معناه السرعة أيضاً وصار مطابقاً لما يأتي به المعزمون في عزائمهم من قولهم: الوحا الوحا العجل العجل مع ما تقدم له من التوطئة بقولي: تخال الجن تنقلها. على أني لست من فرسان هذا الميدان، ولا من رجال هذا الوغى.
الضرب الخامس: أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى:
قال في المثل السائر: وهذا هو المحمود الذي يخرج به حسنه عن باب السرقة؛ فمن ذلك قول أبي تمام:
إن الكرام كثير في البلاد وإن ** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا

أخذه البحتري فقال:
قل الكرام فصار يكثر فذهم ** ولقد يقل الشيء حتى يكثرا

ومنه قول أبي نواس:
يدل على ما في الضمير من الفتى ** تقلب عينيه إلى شخص من يهوى

وقول أبي الطيب بعده:
وإذا خامر الهوى قلب صب ** فعليه لكل عين دليل

ومنه قول أبي العلاء بن سليمان في مرثية:
وما كلفة البدر المنير قديمة ** ولكنها في وجهه أثر اللطم

وقول القيسراني بعده:
وأهوى الذي يهوي له البدر ساجداً ** ألست ترى في وجهه أثر الترب

ومنه قول ابن الرومي:
إذا شنأت عين امرئ شيب نفسه ** فعين سواه بالشناءة أجدر

وقول من بعده:
إذا كان شيبي بغيضاً إلي ** فكيف يكون إليها حبيبا

الضرب السادس: أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكاً موجزاً:
قال في المثل السائر: وهو من أحسن السرقات: لما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول وسعة باعه في البلاغة، فمن ذلك قول أبي تمام:
برزت في طلب المعالي واحدا ** فيها تسير مغوراً أو منجدا

عجباً بأنك سالم من وحشة ** في غاية ما زلت فيها مفردا

وقول ابن الرومي بعده:
غربته الخلائق الزهر في النا ** س وما أوحشته بالتغريب

فأخذ معنى البيتين في بيت واحد، ومنه قول أبي العتاهية:
وإني لمعذور على فرط حبها ** لأن لها وجهاً يدل على عذري

أخذه أبو تمام فقال:
له وجه إذا أبصر ** ته ناجاك عن عذري

فأوجز في هذا المعنى غاية الإيجاز؛ ومنه قول أبي تمام يمدح أحمد بن سعيد:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ** عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت ** أذني بأحسن مما قد رأى بصري

أخذه أبو الطيب فأوجز في أخذه فقال:
واستكبر الأخبار قبل لقائه ** فلما التقينا صغر الخبر الخبر

ومن قول بعض الشعراء:
أمن خوف فقر تعجلته ** وأخرت إنفاق ما تجمع؟

فصرت الفقير وأنت الغني ** وما كنت تعدو الذي تصنع

أخذه أبو الطيب فقال:
؟ومن ينفق الساعات في جمع ماله ** مخافة فقر فالذي فعل الفقر

الضرب السابع: زيادة البيان مع المساواة في المعنى بأن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه:
فمن ذلك قول أبي تمام:
هو الصنع إن يعجل فنفع وإن يرث ** فللريث في بعض المواطن أنفع

أخذه أبو الطيب فقال:
ومن الخير بطه سيبك غني ** أسرع السحب في المسير الجهام

فزاده وضوحاً بضرب المثال له بالجهام وهو السحاب الذي لا مطر فيه.
ومنه قول أبي تمام أيضاً:
قد قلصت شفتاه من حفيظته ** فخيل من شدة التعبيس مبتسما

أخذه أبو الطيب فقال:
وجاهل مده في جهلة ضحكي ** حتى أتته يد فراسة وفم

إذا رأيت نيوب الليث بارزة ** فلا تظنن أن الليث مبتسم

فضرب له مثالاً بظهور أنياب الليث فزاده وضوحاً.
ومنه قول أبي تمام أيضاً:
وكذاك لم تفرط كآبة عاطل ** حتى يجاورها الزمان بحال

أخذه البحتري فقال:
وقد زادها إفراط حسن جوارها ** لأخلاق أصفار من المجد خيب

وحسن دراري الكواكب أن ترى ** طوالع في داج من الليل غيهب

فضرب له مثلاً بالكواكب في ظلام الليل فأوضحه وزاده حسناً.
الضرب الثامن: اتحاد الطريق واختلاف المقصود:
مثل أن يسلك الشاعران طريقاً واحدة فتخرج بهما إلى موردين، وهناك يتبين فضل أحدهما على الآخر.
فمن ذلك قول النابغة:
إذا ما غزا بالجيش حلق فوقه ** عصائب طير يهتدي بعصائب

جوانح قد أيقن أن قبيله ** إذا ما التقى الجمعان أول غالب

وهذا المعنى قد توارده الشعراء قديماً وحديثاً وأوردوه بضروب من العبارات، فقال أبو نواس:
يتوخى الطير عزوته ** ثقة باللحم من جزره

وقال مسلم بن الوليد:
قد عود الطير عادات وثقن بها ** فهن يتبعنه في كل مرتحل

وقال أبو تمام:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ** بعقبان طير في الدماء نواهل

أقامت مع الرايات حتى كأنها ** من الجيش إلا أنها لا تقاتل

وكل هؤلاء قد أتوا بمعنى واحد لا تفاضل بينهم فيه إلا من جهة حسن السبك أو من جهة الإيجاز. قال: ولم أر أحداً أغرب في هذا المعنى فسلك هذا الطريق مع اختلاف مقصده إلا مسلم بن الوليد فقال:
أشربت أرواح العدا وقلوبها ** خوفاً فأنفسها إليك تطير

لو حكمتك فطالبتك بذحلها ** شهدت عليك ثعالب ونسور

فهذا قد فضل به مسلم غيره في هذا المعنى، ولما انتهى الأمر إلى أبي الطيب سلك هذه الطريق التي سلكها من تقدمه، إلا أنه خرج فيها إلى غير المقصد الذي قصدوه فأغرب وأبدع، وحاز الإحسان بجملته، وصار كأنه مبتدع لهذا المعنى دون غيره فقال:
سحاب من العقبان يزحف تحتها ** سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه

فحوى طرفي الإغراب والإعجاب.
الضرب التاسع: بياض بالأصل.
الضرب العاشر: أن يكون المعنى عاماً فيجعل خاصاً أو خاصا فيجعل عاماً:
وهو من السرقات التي يسامح صاحبها؛ فأما جعل العام خاصاً فمن ذلك قول الأخطل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

أخذه أبو تمام فقال:
أألوم من بخلت يداه واغتدي ** للبخل ترباً ساء ذاك صنيعا

فالأخطل نهى عن الإتيان بما ينهى عنه مطلقاً فجاء بالخلق منكراً فجعله شائعاً في بابه، وأبو تمام خصص ذلك بالبخل وهو خلق واحد من جملة الأخلاق.
وأما جعل الخاص عاماً، فمن ذلك قول أبي تمام:
ولو حاردت شول عذرت لقاحها ** ولكن منعن الدر والضرع حافل

أخذه أبو الطيب فجعله عاماً فقال:
وما يؤلم الحرمان من كف حارم ** كما يؤلم الحرمان من كف رازق

الضرب الحادي عشر: قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة:
قال في المثل السائر: وهذا لا يسمى سرقة بل يسمى إصلاحاً وتهذيباً، فمن ذلك قول أبي نواس في أرجوزة يصف فيها اللعب بالكرة والصولجان فقال من جملتها:
جن على جن وإن كانوا بشر ** كأنما خيطوا عليها بالإبر

أخذه المتنبي فقال:
فكأنها نتجت قياماً تحتهم ** وكأنهم خلقوا على صهواتها

فهذا في غاية العلو والارتقاء بالنسبة إلى قول أبي نواس، ومنه قول أبي الطيب:
لو كان ما تعطيهمو من قبل أن ** تعطيهمو لم يعرفوا التأميلا

وقول ابن نباتة السعدي:
لم يبق جودك لي شيئاً أؤمله ** تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

فكلام ابن نباتة أحسن في الصورة من كلام المتنبي هنا وإن كان مأخوذاً منه.
الضرب الثاني عشر: قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة:
وهو الذي يعبر عنه أهل هذه الصناعة بالمسخ، وهو من أرذل السرقات وأقبحها، فمن ذلك قول أبي تمام:
فتى لا يرى أن الفريضة مقتل ** ولكن يرى أن العيوب مقاتل

أخذه أبو الطيب فمسخه فقال:
يرى أن ما بان منك لضارب ** بأقتل مما بان منك لعائب

ومنه قول عبد السلام بن رغبان:
نحن نعزيك ومنك الهدى ** مستخرج والصبر مستقبل

أخذه أبو الطيب فمسخه فقال من أبيات:
وبألفاظك أهتدي فإذا عزا ** ك قال الذي قلت قبلا

المسلك الثاني طريقة الاختراع:
قال الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر: فهي ألا يتصفح كتابة المتقدمين ولا يطلع على شيء منها، بل يصرف همته إلى حفظ القرآن الكريم وكثير منن الأخبار النبوية وعدة من دواوين فحول الشعراء ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ، ثم يأخذ في الاقتباس من القرآن والأخبار النبوية والأشعار فيقوم ويقع، ويخطئ ويصيب، ويضل ويهتدي، حتى يستقيم إلى طريق يفتتحها لنفسه؛ وأخلق بتلك الطريق أن تكون مبتدعة غريبة لا شركة لأحد من المتقدمين فيها! قال: وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد وصاحبها يعد إماماً في الكتابة كما يعد الشافعي وأبو حنيفة ومالك وغيرهم من المجتهدين في علم الفقه، إلا أنها مستوعرة جداً، لا يستطيعها إلا من رزقه الله تعالى لساناً هجاماً، وخاطراً رقاماً. قال: ولا أريد بهذا الطريق أن يكون الكاتب مرتبطاً في كتابته بما يستخرجه من القرآن الكريم والأخبار النبوية والأشعار، بحيث أنه لا ينشئ كتاباً والأشعار، ثم نقب عن ذلك تنقيب مطلع على معانيه، مفتش على دفائنه، وقلبه ظهراً لبطن، عرف حينئذ من أين تؤكل الكتف فيما ينشئه من ذات نفسه، واستعان بالمحفوظ على الغريزة الطبيعية. على أنه لا بد للكاتب المرتقي إلى درجة الاجتهاد في الكتابة مع حفظ القرآن الكريم، والاستكثار من حفظ الأخبار النبوية، والأشعار المختارة، من العلم بأدوات الكتابة وآلات البيان: من علم اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، ليتمكن من التصرف في اقتباس المعاني واستخراجها فيرقى إلى درجة الاجتهاد في الكتابة؛ كما أن المجتهد م الفقهاء إذا عرف أدوات الاجتهاد: من آيات الأحكام، وأحاديثها، ونعتها، وعرف النحو والناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، والحساب والفرائض وإجماع الصحابة، وغير ذلك من آلات الاجتهاد وأدواته، استخرج بفكره حينئذ ما يؤديه إليه اجتهاده؛ فالمجتهد في الكتابة يستخرج المعاني من مظانها من القرآن الكريم، والأخبار النبوية، والأشعار، والأمثال، وغير ذلك بواسطة آلة الاجتهاد، كما أن المجتهد في الفقهيات يستخرج الأحكام من نصوص الكتاب والسنة بواسطة آلة الاجتهاد. فإذا أراد الكاتب المتصف بصفة الاجتهاد في الكتابة إنشاء خطبة أو رسالة أو غيرها مما يتعلق بفن الإنشاء.
بياض في الأصل.